“لا تجعل بائع فِجل يحدد قيمتك”


“لا تجعل بائع فِجل يحدد قيمتك”

المستشار محمد طلعت المغربي. 


تُروى الحكاية أن في مدينة سامرّاء، شمال بغداد، كانت تعجّ بالحياة والعلم، وتزهو بجامعتها الكبرى التي يرأسها العلّامة الجليل أبو الحسن، أحد كبار المفكرين في العراق..

وقد التفّ حوله طلاب من شتى أرجاء الوطن العربي، ومن بينهم شاب فقير الحال، ثاقب الذهن، عظيم الطموح، يحلم أن يصير يومًا من أعمدة العلم في بلاده.

وفي يوم قائظ، خرج هذا التلميذ من درس أستاذه وهو جائع، لا يملك سوى فلسٍ ونصف الفلس، بينما ثمن وجبته البسيطة — رغيف وفِجل — فلسان
اشترى بالرغيف فلسًا واحدًا..

ثم قصد بائع الخضروات قائلًا:
– معي نصف فلس فقط، أأشتري به باقة فِجل؟

فرد البائع ساخرًا:
– الباقة بفلسٍ كامل.

قال الطالب برجاء:
– سأعطيك في المقابل مسألة علمية أو فقهية تنفعك.

قهقه البائع وقال بازدراء:
– لو كان علمك ينفع، لجلب لك نصف فلس تكمل به ثمن الفجل!
اذهب، وانقع علمك في الماء واشربه لتشبع!

كانت الكلمات كطعنةٍ في صدره، فوقف مذهولًا وقال في نفسه:
“حقًّا، ما جدوى علمٍ لا يطعم صاحبه؟ عشر سنوات من الدرس لم تُغنني عن نصف فلس!”

وقرّر في تلك اللحظة أن يترك الجامعة، ويبحث عن عملٍ يسدّ به رمقه.

بعد أيام، افتقد أبو الحسن تلميذه النجيب، وسأل عنه في قاعة الدرس، فقيل له:
– لقد ترك الجامعة ليعمل، فالفقر أرهقه.

تحرك الأستاذ مشفقًا حتى وصل إلى بيته، وسأله عن سبب تركه العلم، فقصّ عليه القصة والدموع تنهمر من عينيه.

مدّ الأستاذ يده، وخلع خاتمه قائلًا:
– خذ هذا الخاتم، بِعه، وأصلح به حالك.

مضى التلميذ إلى سوق الصاغة، وعرض الخاتم للبيع، فقال أحدهم بدهشة:
– هذا الخاتم ثمين! أشتريه منك بألف دينار، ولكن من أين لك به؟
فأجابه التلميذ:
– هو هدية من أستاذي، الشيخ أبو الحسن.

ذهب الصائغ معه إلى الأستاذ ليتأكد من قوله، فأقرّ أبو الحسن أنه أهداه الخاتم، فدفع الصائغ الثمن وانصرف.

حين عاد التلميذ، سأله أستاذه:
– إلى من ذهبت حين رغبت ببيع الخاتم؟
– إلى سوق الصاغة، طبعًا.
– ولماذا لم تذهب إلى بائع الفِجل؟
– لأن الصاغة وحدهم من يعرفون قيمة الجواهر والمعادن.

ابتسم الأستاذ وقال:
– يا بني، لقد أجبت نفسك بنفسك.

لماذا سمحت لبائع الفِجل أن يقدّر علمك؟

هل يُثمن العلمَ إلا من يعرف قدره؟
عد إلى درسك، ولا تترك لأحدٍ لا يعرف قيمتك أن يضعك في ميزانه.

فالعبرة يا بُنيّ: لا تجعل من لا يعرف قيمتك يثمنك،
فليس كل من يراك يفهم جوهرك،
ولا يعرف قيمة الذهب إلا الصاغة،
ولا يدرك قدر العالم إلا العلماء.

كم منّا خسر ذاته لأنه صدّق رأيًا رخيصًا من لسانٍ لا يُقدّر؟

قيّم نفسك عند من يرى جوهرك، لا عند من يراك بضاعة في سوق الفِجل.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إستغاثات من معلمي و معلمات مدرسة ابو الهول القومية المشتركه‏ بمحافظة الجيزة

إستغاثة إتحاد طلاب مدارس المتفوقين في العلوم والتكنولوجيا (STEM)

الحلقة الأولي من صرخة مهندس